فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (16):

{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
{يَهْدِي بِهِ الله} وحد الضمير لأن المراد بهما واحد، أو لأنهما كواحد في الحكم. {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} من اتبع رضاه بالإِيمان منهم. {سُبُلَ السلام} طرق السلامة من العذاب، أو سبل الله. {وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظلمات إِلَى النور} من أنواع الكفر إلى الإِسلام. {بِإِذْنِهِ} بإرادته أو توفيقه. {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} طريق هو أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى ومؤد إليه لا محالة.

.تفسير الآية رقم (17):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتاً وقالوا لا إله إلا الله واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتقدهم. {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} فمن يمنع من قدرته وإرادته شيئاً. {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح} عيسى. {ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} احتج بذلك على فساد عقولهم وتقريره: أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية. {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إزاحة لما عرض لهم من الشبهة في أمره، والمعنى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإِطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات والأرض، ومن أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات، ومن أصل يجانسه إما من ذكر وحده كما خلق حواء أو من أنثى وحدها كعيسى، أو منهما كسائر الناس.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
{وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} أشياع ابنيه عزيراً والمسيح كما قيل لأشياع ابن الزبير الحبيبون أو المقربون عنده قرب الأولاد من والدهم وقد سبق لنحو ذلك مزيد بيان في سورة (آل عمران). {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي فإن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن من كان بهذا المنصب لا يفعل ما يوجب تعذيبه، وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودات. {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} ممن خلقه الله تعالى. {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} وهم من آمن به وبرسله. {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} وهم من كفر، والمعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عنده. {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} كلها سواء في كونها خلقاً وملكاً له. {وَإِلَيْهِ المصير} فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

.تفسير الآية رقم (19):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
{يَأَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ} أي الدين، وحذف لظهوره، أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان والجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبيناً لكم. {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإِرسال وانقطاع من الوحي، أو يبين حال من الضمير فيه. {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به. {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا ب {مَا جَاءنَا} فقد جاءكم. {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على الإِرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، إذ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وعلى الإِرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} أي وجعل منكم أو فيكم، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى، وقيل: لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكاً. {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ} من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله، وقيل: المراد بالعالمين عالمي زمانهم.

.تفسير الآية رقم (21):

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}
{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومسكن المؤمنين. وقيل: الطور وما حوله. وقيل: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل الشام. {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكناً لكم، ولكن إن آمنتم وأطعتم لقوله لهم بعدما عصوا {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم} ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا وقالوا: ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق على الله سبحانه وتعالى. {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} ثواب الدارين، ويجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب.

.تفسير الآية رقم (22):

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}
{قَالُواْ يَا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} متغلبين لا تتأتى مقاومتهم، والجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره وهو الذي يجبر الناس على ما يريده. {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون} إِذ لاَ طَاقَة لَنَا بهم.

.تفسير الآية رقم (23):

{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}
{قَالَ رَجُلاَنِ} كالب ويوشع. {مِنَ الذين يَخَافُونَ} أي يخافون الله سبحانه وتعالى ويتقونه. وقيل كان رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا الواو لبني اسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل، ويشهد له أنه قرئ: {الذين يُخَافُونَ} بالضم أي المخوفين، وعلى المعنى الأول يكون هذا من الإِخافة أي من الذين يخوفون من الله عز وجل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد. {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالإِيمان والتثبيت وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض. {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الأصحار. {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون} لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، ولأنهم أجسام لا قلوب فيها، ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة والسلام وقوله: {كَتَبَ الله لَكُمْ} أو مما علما من عادة الله سبحانه وتعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه. {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مؤمنين به ومصدقين بوعده.

.تفسير الآية رقم (24):

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}
{قَالُواْ يَا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً} نفوا دخولهم على التأكيد والتأبيد. {مَّا دَامُواْ فِيهَا} بدل البعض. {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما، وقيل تقديره اذهب أنت وربك يعينك.

.تفسير الآية رقم (25):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)}
{قَالَ رَبّ إِنّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} قاله شكوى بثه وحزنه إلى الله سبحانه وتعالى لما خالفه قومه وأيس منهم، ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام والرجلان المذكوران وإن كانا يوافقانه لم يثق عليهما لما كابد من تلون قومه، ويجوز أن يراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه، ويحتمل نصبه عطفاً على نفسي، أو على اسم إن ورفعه عطفاً على الضمير في {لا أَمْلِكُ}، أو على محل إن واسمها، وجره عند الكوفيين عطفاً على الضمير في نفسي. {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} بأن تحكم لنا بما نستحقه وتحكم عليهم بما يستحقونه، أو بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم.

.تفسير الآيات (26- 32):

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}
{قَالَ فَإِنَّهَا} فإن الأرض المقدسة. {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم. {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقتاً غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ويؤيد ذلك ما روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني اسرائيل ففتح أريحاء، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل: إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني اسرائيل، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقاً فيكون التحريم مطلقاً، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه، وإنما قاتل الجبابرة أولادُهم. روي: أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وزيادة في درجتهما، وعقوبة لهم، وأنهما ماتا فيه مات هارون، وموسى بعده بسنة. ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع. {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} خاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءادَمَ} قابيل وهابيل، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل، فقال لهما آدم: قربا قرباناً فمن أيكما قُبِلَ تزوجها، فَقُبِلَ قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل سخطاً وفعل ما فعل. وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني اسرائيل ولذلك قال: {كَتَبْنَا على بَنِي إسراءيل}. {بالحق} صفة مصدر محذوف أي تلاوة ملتبسة بالحق، أو حال من الضمير في اتل، أو من نبأ أي ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين {إِذْ قَرَّبَا قربانا} ظرف لنبأ، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قرباناً. قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنه، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملاً سميناً.
{فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده. {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} توعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك. {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظاً، لا في إزالة حظه فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقٍ.
{لَئِن بَسَطتَ إِليَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنّي أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} قيل: كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله سبحانه وتعالى لأن الدفع لم يبح بعد، أو تحرياً لما هو الأفضل قال عليه الصلاة والسلام: «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» وإنما قال: {مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ} في جواب {لَئِن بَسَطتَ} للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأساً، والتحرز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء.
{إِنّي أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار وَذَلِكَ جَزَاءُ الظالمين} تعليل ثان للامتناع عن المعارضة والمقاومة، والمعنى إنما استسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك يدك إلي ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي، وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، وكلاهما في موضع الحال أي ترجع ملتبساً بالإِثمين حاملاً لهما، ولعله لم يرد معصية أخيه وشقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفاً فأريد أن يكون لك لا لي، فالمراد بالذات أن لا يكون له أن يكون لأخيه ويجوز أن يكون المراد بالإِثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة.
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع. وقرئ: {فطاوعت} على أنه فاعل بمعنى فعل، أو على أن {قَتْلَ أَخِيهِ} كأنه دعاها إلى الإِقدام عليه فطاوعته، وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} ديناً ودنيا، إذ بقي مدة عمره مطروداً محزوناً. قيل قتل هابيل وهو ابن عشرين سنة عند عقبة حراء. وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
{فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} روي أنه لما قتله تحير في أمره ولم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة والضمير في ليرى، لله سبحانه وتعالى، أو للغراب، وكيف حال من الضمير في {يواري} والجملة ثاني مفعولي يرى! والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى.
{قَالَ يَا وَيْلَتَا} كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك، والويل والويلة الهلكة. {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} لا أهتدي إلى مثل ما أهتدي إليه، وقوله: {فَأُوَارِيَ} عطف على {أَكُونَ} وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى هاهنا لو عجزت لواريت، وقرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفاً. {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل، وتلمذه للغراب واسوداد لونه وتبري أبويه منه، إذ روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلاً فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ منه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وعدم الظفر بما فعله من أجله.
{مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِي إسراءيل} بسببه قضينا عليهم، وأجل في الأصل مصدر أجل شراً إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم، من جراك فعلته، أي من أن جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشوء من أجل ذلك. {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. {أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض} أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق. {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. {وَمَنْ أحياها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيباً عن التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها. {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ} أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيداً للأمر وتجديداً للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإِسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر.